التخلف و التأخر العلمي و سوء الخدمات العمومية ليس قدرا بل نتيجة لسوء التدبير و التكوين و خيانة الأمانة و تسلط الخبث و الجهل على السياسة. التنمية القوية إرادة أولا و ثانيا و أخيرا. هذه الإرادة قد تواجه غياب الاطر و البنيات التحتية و الغش الضريبي و التلاعب بالصفقات العمومية و غياب العدالة الإجتماعية، و لكن قوتها و صدقيتها و تغييب جريمة تضارب المصالح لدى القيادات الصالحة تمكنها من الفعل في الواقع.
تعودنا منذ عقدين من تسجيل بعض النقط على التخلف و ذلك بفضل الإرادة السياسية. و لا زالت لدينا الكثير من الأهداف الاستراتيجية التي يجب تحقيقها في مجال التنمية و العدالة الإجتماعية. عشنا قبل عقود أزمات التمويل الميزانياتي ، و وقفت مشاريع لسنوات قبل أن يتم الشروع في إتمام إنجازها. و للذكرى توقف مشروع الطريق السيار لسنوات خلال الثمانينات. و لم تصل هذه الطريق من بوزنيقة إلى الرباط إلا في التسعينات. لكن الدولة شعرت بضرورة تبني سياسات إستراتيجية و إرادية مهما كانت تكلفتها. و نتج عن هذه الإرادة مركب ميناءي كبير على البحر الأبيض المتوسط و شبكة طرق سيارة و مناطق صناعية لوجيستيكية و توجه نحو محاربة الفوارق الإجتماعية و المجالية.
و لا يمكن لعاقل أن يغفل تملص الطبقة الإجتماعية التي تراكم الثروة و القرار الحزبي الانتخابي و الريع الإقتصادي في بلادنا. و لنا في خطاب ملك البلاد خير دليل على هذا الوضع. ” أين الثروة ؟ “، هكذا تكلم من يحمل الأمانة الكبرى أمام برلمان الأمة.
و اليوم، و بعد كارثة الزلزال، تبين أن الإرادة السياسة و الثقافة التضامنية هي عماد هذا الوطن. الآن سندخل جميعا إلى مدرسة تغيير الواقع و النهوض ببلادنا أو سنخطأ الموعد مع التاريخ إلى الأبد. المغاربة أعطوا دمهم و في مقدمتهم عاهل البلاد. الفقير قبل الغني تقاسم لقمته مع أخيه و المغربي تشارك و تضامنا مع صنوه في الأطلس الكبير خلال معركة مواجهة آثار فاجعة الزلزال. و كل ما ذكر لا يعني أننا لا نعاني من ظلم فئات إجتماعية قليلة راكمت خيرات الوطن بغير جهد استثماري و سيطرت على القرار السياسي فشوهت التدبير العمومي و أدخلت البلاد في نفق إجتماعي خطير. تبنت الكثير من الأحزاب تغييب الكفاءة و النزاهة و المستوى الدراسي من خلال اجماعها على القوانين لا تفرض أي مستوى دراسي على من يتقدم للانتخابات. و أصبح سوق التزكيات مربحا و منشطا قويا لبلوغ أقصى درجات الانحطاط الحزبي.
اليوم و بعد جهد الملك و الشعب تمكننا من مواجهة الآثار الأولى للزلزال و لا زالت الطريق أمامنا طويلة و وعرة. المهم أننا نجحنا في اجتياز المرحلة الأولى رغم تكالب قوى الإستعمار الجديد و أبواقها الإعلامية مدفوعة الأجر.
أمامنا طريق و لدينا إمكانيات يجب أن نحسن توظيفها لتحسين عيش المواطن و فتح الطريق للخروج إلى رحابة اقتصادية كبيرة و طموحة. لدينا ميزانية كبيرة تتجاوز 120 مليار درهم تحتم علينا أن نقطع الطريق على من يريد إدخالها في أنفاق المساطر الإدارية القديمة. هذه الميزانية تختلف عن كل الميزانيات التي تتم برمجتها على مدى سنوات. الأمر يتعلق بالصرف بإيقاع سريع على مشاريع مستعجلة تهم الوطن و سمعته. نريد أن ينقلب السحر على الساحر الذي طالما ظلمنا و أن تكون إرادة الإستثمار محطة لتقوية نسيج المقاولات الوطنية في مجال الطرق و البناء و صناعة الأسمنت و الحديد و كافة مواد بناء الطرق و المنازل و السدود.
الإرادة السياسية لا يمكن أن تقف في وجهها أية إرادة دنيوية. سننجع في تدبير 120 مليار و ما يرافقها من مئات الصفقات عبر أساليب رقابية بعدية مهنية و عميقة. و أكثر الرقابات فعلا في مجال تغيير الواقع هي تلك التي تركز على فاعلية الإنجاز و على محاسبة دقيقة للمسؤولين و تستهدف كل أشكال الاغتناء غير المشروع. حين نتكلم عن المجهود الإستثماري العام، يجب أن نستحضر ضرورة دعم المقاولة الوطنية عبر الطلب العمومي. و حين ندعم مقاولتنا الوطنية فإننا نزيد من قدرتنا على زيادة مواردنا الإقتصادية و المالية و الجباءية. و المتجاهل لهذا المقصود عدو نفسه و بلاده.
قبل استئناف كتابة هذه الأسطر، اطلعت على مكونات تدبير ميزانية إعادة إعمار الأقاليم المتضررة من الزلزال. المخطط الذي قدمه الوزير فوزي لقجع واقعي و عملي و يركز على استهدافات ذات مدلول عميق. الأولويات تم وضعها في تناسب مع ما هو مستعجل . أما الاستثمارات التي سيتغير بنيات الأقاليم المحيطة بالجانب الجبلي لمراكش فقد برمجت على مدى متوسط. و الأهم في هذا كله هو تلك الضمانة المؤسساتية الخاصة بالإنجاز و تنفيذ البرنامج الإستثماري في رمته. لن أخفي ترحيبي بكل عمل يتم اسناده إلى وحدة للتنفيذ سواء كانت وكالة أو مؤسسة عمومية أو شركة خاصة ذات تجربة مهنية عالية. تجربة وكالات التنمية للجهات تمثل تجربة جيدة في تاريخنا المعاصر. و توجد على رأس هذه الوكالات تلك التي تم تخصيصها لأقاليم الشمال.
البنيات المؤسساتية لتنفيذ المشاريع أساسية جدا لضمان متابعة مهنية لكافة مكونات البرنامج الإستثماري. لو تم تمكين وكالة تنمية اقاليم الشمال من كل الميزانيات القطاعية التي وجهت لبرنامج مواجهة آثار زلزال الحسيمة، لما تمت إزاحة الكثير من المسؤولين قبل سنين. إيقاع التنفيذ لدى الوزارات ضعيف بالنسبة لإيقاع وحدات التنفيذ المستقلة كالوكالات. لدى هذه الأخيرة قدرة كبيرة على التخلص من السلوكات البيروقراطية و سهولة خضوعها للمراقبة البعدية. أتمنى أن يتم تكليف وحدة للتنفيذ ذات قدرة على العمل بسرعة و بدراية مهنية بسبل النجاح في الإنجاز. لا يهم أن يكون على رأسها مسؤول كبير جدا و لكن لا يجب أن يتم اغراقها بذوي القوة الشبكاتية و القرب من مراكز القرار. يجب أن تكون قليلة العدد، كثيرة الخبرة، بعيدة عن التعقيدات الإدارية و قادرة على مواجهة التكاليف غير المتوقعة لأي مشروع في إطار البرنامج الإستثماري. المهم هو قوة الإنجاز و الاستجابة لحاجيات تنمية المنطقة و عدم الاختباء وراء الأعذار المتعلقة بالقانون المنظم للصفقات أو بغيرها من الأسباب التي قد تؤثر على تأخر اجال التنفيذ.
لدينا مقاولات مغربية تفوق خبرتها و وسائلها مقاولات أجنبية و لنا رأسمال بشري كبير من المهندسين و التقنيين و العمال و هذا ما اثبته مواجهة الآثار الأولى للزلزال.
يجب أن نبني الثقة في هذا الرأسمال لكي ننجح جميعا. الأمر بين أيدينا و أمامنا فرصة لتقوية الثقة في مؤسساتنا. المهندس المغربي و الخبير المغربي و الطبيب المغربي لا يجب أن يخضع لسلطة منتخب لا تكوين له و لا يحمل هما وطنيا و لم يراكم، منذ سنين، إلا اموالا و عقارات لا يمكن أن يبرر مصدرها المشروع. و السلام على من اتبع أخلاق بناء الأوطان.