بقلم بهية بنخار :
المطالب المشروعة
رغم اننا لا نعرف ان كانت مبادرة شبابية “عفوية” او “مُحركة و مُفتعلة” لم يكن خروج الشباب المغاربة أمس إلى الشارع حدثاً عادياً، او عابرا و عرضيا، بل كان علامة فاصلة في علاقة جيل جديد مع وطنه ومؤسساته!
جيل “Z”، الجيل الرقمي، قرر أن يرفع صوته مطالباً بما هو بديهي: الحق في الصحة، في تعليم جيد، في عدالة منصفة، في كرامة مواطنية…وهذه المطالب، في جوهرها، مشروعة لا يختلف حولها اثنان.
أزمة التأطير واعتقالات مؤسفة
لكن المعضلة اليوم ليست في شرعية المطالب، بل في الفراغ الرهيب الذي يعيشه الشباب على مستوى التأطير السياسي والتواصلي. الأحزاب أغلقت أبوابها في وجوههم، وخطاب الحكومة صار متعالياً، منفصلاً عن نبض الشارع. بل وصل الأمر ببعض القيادات الحزبية المنتمية للحكومة الحالية إلى حدّ إهانة كل من يجرؤ على انتقاد الأداء الحكومي، وكأن الاختلاف خيانة، وكأن المطالبة بالعدالة الاجتماعية الحقيقية ضرب من التآمر.
وللأسف، بدل أن نصغي جيداً إلى ما وراء هذه الصرخة، شاهدنا اعتقالات في صفوف شباب، بل وأطفال، كانوا يصرّحون ببراءة أمام وسائل الإعلام عن أسباب نزولهم. صحيح أن للأمن حقاً مشروعاً في الاستفسار عن خلفيات ما يجري والمطالبة بوقفات مصرّح بها، لكي يعرف من يحرك خيوط هذه الدعوات، لكن ليس دائماً التعبير عن نبض الشعب يحتاج تصريحاً، إذا كان سلمياً، لا عنف فيه ولا خطاب كراهية ولا مساس بالثوابت ولا تهديد لحياة المواطنين وسيرورة الحياة العادية. ثم من الواضح أن من يخطط أو يحرّك لا ينزل خصماً إلى الشارع. من نزلوا أمس هم في غالبيتهم الساحقة شباب بسطاء، بلا انتماءات حزبية، بلا نضج سياسي، بلا دراية كافية بما يدور.
أزمة انتقال الأجيال
لكن الأزمة أعمق من مجرد غياب تأطير. إنّها أزمة انتقال الأجيال. نحن أبناء الثمانينات والتسعينات – جيل “الميلينيال” – نشعر أننا عشنا ولا زلنا نعيش نفس الإقصاء. لقد وجدنا أنفسنا جيلاً هجينا: نحاول أن نفهم أبناءنا من الجيل الجديد، وفي الوقت ذاته نصطدم بجيل الخمسينات والستينات الذي لا يزال متشبثاً بالمواقع، رافضاً الاعتراف بانتهاء دورته الطبيعية، متمسكاً بالقرار الحزبي والسياسي والمؤسساتي منذ ثلاثة وأربعة عقود.
كيف يُعقل أن يظل نفس الوجوه تدير المشهد منذ أربعين سنة؟ كيف يُعقل أن تُغلق الأبواب في وجه كل رأي جديد؟ هؤلاء الذين يرفضون التغيير لم يكتفوا بمصادرة المستقبل من الشباب، بل صادروا منا نحن أيضاً – في الأربعينيات من أعمارنا – حق أن نُسمع، أن نُعتبر شركاء حقيقيين. نحن بالنسبة لأبنائنا “جيل قديم”، وبالنسبة لمن سبقنا ما زلنا “أطفالاً”. أين العدالة الجيلية؟
ولذلك، فإن ما جرى في الشارع ليس مجرد احتجاج عاطفي، بل نتيجة طبيعية لانسداد الأفق أمام ثلاث وأربع أجيال متعاقبة: جيل الخمسينات والستينات الذي يرفض تسليم المشعل، جيل الثمانينات والتسعينات الذي صودرت فرصته في القيادة، جيل الألفينات الذي لم يُعترف به أصلاً، وجيل ما بعد 2010 الذي يطرق الأبواب بلا مجيب، بل ولا يعرف أين هو الباب الصحيح أصلاً، هذا إذا كان هناك باب من الأصل!
و النتيجة ؟ جيل بعد جيل يخرج من المعادلة السياسية والاجتماعية
نداء للشباب
إنني هنا لا أبرّر الفوضى ولا أهوّن من خطورة الاستغلال. بل بالعكس، أوجه نداءً صريحاً لهؤلاء الشباب: كونوا يقظين. نعم، مطالبكم شرعية، لكن حذارِ من أن تتحولوا إلى أدوات في يد خصوم الخارج أو العدميين في الداخل، أو حتى بعض الأطراف التي تريد فقط تصفية حساباتها الخاصة؛ من حسابات سياسوية مغشوشة، أو حسابات انتخابية ضيقة في حملات مبطنة سابقة لأوانها، وحتى حسابات بعض الأطراف مع “المخزن” في صراعات تاريخية بدأت قبل أن تولدوا أنتم، أو حتى قبل أن نولد نحن. هذه الحسابات ليست شأنكم، ولا يجب أن تكون حريتكم ومطالبكم وصرخاتكم ومستقبلكم وكرامتكم وصوتكم وقوداً لها. أنتم شباب اليوم قد يكون بعضكم عاطفياً، غير مؤطر بما يكفي، لكنكم لستم أغبياء. أنتم جيل ذكي يتعامل مع الذكاء الاصطناعي والبشري بسلاسة. قوتكم في وعيكم، في فهمكم لآليات هذا الزمن، حتى وإن كنتم منفصلين عن السياقات السياسية والتاريخية. قوتكم اليوم في حقكم على أن تقولوا: نحن مغاربة، نحب وطننا، نريد أن نراه وطناً يشبه الرؤى التي نكتسبها خلف شاشات هواتفنا، ونريد فقط أن نُعبر، أن نُسمع ونُحترم.
مسؤولية الأحزاب والدولة والمجتمع المدني
ولمن يصر على وصم هذا الجيل أو اختزاله في صور نمطية مثل “مجتمع الميم” أو غيره، نقول: هذا جيل مغربي كبقية الأجيال، بل هو مجتمع كامل بكل حروف الأبجدية. فيه المتدين وغير المتدين، اليساري واليميني، الحداثي والمحافظ، المنفتح والتقليدي، المثقف والبسيط. مجتمع بكل ميولاته وبكل تنوعاته، لكن تجمعه التمغريبت وحب الوطن. مجتمع بكل اختلافاته، لكنه يتوحد حول مطالب وطنية واضحة: كرامة، عدالة اجتماعية ومجالية، ديمقراطية، الحق في التعايش، والحق في العيش الكريم. كما في كل جيل سابق. هذا الجيل الذي تريدونه منفصلاً هو صورة مصغرة للمغرب اليوم، بكل تنوعه وغناه.
وهنا، تكمن مسؤولية الأحزاب والمجتمع المدني والدولة… إن استمرار غياب التأطير، واستمرار لغة الخشب المتعالية من بعض الوزراء والسياسيين والمسؤولين، في انفصال تام عن الواقع الحقيقي، عبر خرجات بئيسة لمسؤول يظهر أمام الكاميرا وكأنه يصغي للناس وهو في مهمة حزبية، أو آخر يركب على مشاريع ملكية، أو آخر يمثل في مشاهد سيتكومية غبية مع صحفية مأجورة، لن تنطلي علينا. لم يعد هذا الجيل يراكم أصلاً، بل يضحك عليكم في “الميمز” والطرولات، ويغلق القناة أو يمر مرور الكرام في “سكرول” سريع كلما ظهر وجهكم. وإذا ردّوا، نعتّم بعضهم بـ”الذباب الإلكتروني” أو “بوزبال” أو “البراهش”. اليوم يجب نصح الكهول والشيب، لا الشباب!
الحاجة إلى مقاربة ديمقراطية اجتماعية
كل هذا لن يؤدي إلا إلى مزيد من الاحتقان. فالمطلوب اليوم ليس قمع الأصوات، بل فتح فضاءات حقيقية للتعبير، للاحتضان، وللحوار. المطلوب أن نعترف أن هناك فجوة هائلة في التواصل بين الطبقة السياسية وشبابها. وحتى “الشبيبات الحزبية” التي يفترض أن تكون الجسر، أثبتت أنها بعيدة تماماً عن لغة هذا الجيل وأدواته.
من المؤسف أن بعض القيادات الحزبية لم تجد وسيلة للرد سوى بالسبّ والإهانة، وكأن النقد واختلاف الرأي خيانة. ومن المؤسف أن بعض الأصوات المجتمعية اعتبرت أي اعتراف بما تحقق من أوراش – خاصة الأوراش الملكية الكبرى – تطبيلاً، بل وسمونا “الزلايجية”. هكذا نخنق الحوار من الجهتين: فلا الإصغاء ولا النقد متاح، ولا التشجيع مسموح. النتيجة: قمع التعبير والانفصال عن كل ما يختلف مع آرائكم ومصالحكم، وبالتالي خلق فراغ سياسي خطير.
لذلك، فإن المطلوب اليوم هو مقاربة ديمقراطية اجتماعية حقيقية: تعترف بالمطالب، تحترم الحق في التعبير، تفتح المجال للحوار، تشرك الشباب في صياغة الحلول، وتؤمن بالعدالة الاجتماعية كركيزة للوحدة الوطنية. المغرب ليس بحاجة إلى لغة الاستعلاء، بل إلى لغة الإصغاء والتضامن.
الامل في الشباب
إنني أتمنى و أدعو إلى عدم استعمال العنف الجسدي و المعنوي و اللفظي و عدم الترهيب و تضييق الحريات المشروعة لانها ممارسات تساهم في اتساع الهوة…فالتعبير ليس جريمة، والشباب الذين نزلوا أمس لم ينزلوا لتقويض الوطن، بل لطلب حياة أفضل داخله…
نعم، هناك من يحرّك من بعيد، وهناك من يتربص ليستغل، لكن معالجة ذلك لا تكون بتجريم جيل كامل، بل ببناء الثقة معه، وبتقوية مناعته ضد الاستغلال عبر التأطير والتربية السياسية منذ الصغر.
اليوم، الإنذار وُجّه بوضوح: إلى الحكومة، إلى الأحزاب، إلى المجتمع المدني. إذا لم نأخذ هذه الأصوات بجدية، فإن الفراغ سيملأه غيرنا، وحينها سيكون الثمن مضاعفاً. المغرب يستحق أفضل، وشبابه يستحقون أن يُسمعوا في مؤسسات قوية، لا في الشارع فقط! لا تجعلوا رجاءا من ابناءنا وقودا لاشعال نار الفتنة في هذا الوطن !
ومع ذلك، يبقى الأمل قائماً…إذا كانت الارادة حقيقية و الوطنية صادقة !
فشباب اليوم، رغم هشاشتهم السياسية، يمتلكون طاقة غير مسبوقة، ووعياً رقمياً واسعاً، وانفتاحاً على عوالم وأفكار جديدة وجب علينا الانفتاح عليها. نعم، لقد خلقنا جيلاً منفصلاً عن واقعه المحلي، متصلاً بعوالم خارج الجغرافيا، يختار أحياناً اللجوء إلى الميتافيرس لأنه لم يعد يجد نفسه في العالم الواقعي. لكن هذا لا يعني أنهم تائهون بلا بوصلة. بل العكس: إنهم يمتلكون من الذكاء والقدرة ما يجعلهم، إذا وجدوا الإصغاء والتأطير، أداة بناء وانتقال إيجابي حقيقي، لا أداة هدم وفوضى.
فلنُحسن “استعادة هذا الجيل”، ولنفتح أمامه أبواب الثقة والمسؤولية، حتى لا يعيد التاريخ نفسه، وحتى نصنع معاً مغرباً يليق بجميع أبنائه وبجميع أبجدياته.
خارطة طريق للإصلاح الديمقراطي الاجتماعي
من هنا، فإن المطلوب ليس إصغاءً مؤقتاً أو تنازلاً شكلياً…المطلوب تحول ديمقراطي اجتماعي حقيقي يضمن دولة الرعاية و العدالة الاجتماعية
• يفرض التداول الجيلي داخل الأحزاب والمؤسسات.
• يُعطي الاعتبار لكل رأي وطني صادق، سواء أكان نقداً أو دعماً.
• يفتح المجال أمام المجتمع المدني الوطني والمؤسساتي ليؤطر الشباب، لا أن يُتركوا فريسة بين أنياب الفراغ والعدمية بل حتى اللاوعي والتيارات المتطرفة.
• يضمن للشباب الحق في التعبير بلا خوف من الاعتقال أو الوصم أو الإهانة.
– يضمن الحق في التعبير و يضمن الكرامة و المساواة و الحرية و العدالة الاجتماعية
– يضمن الحق في ولوجية و الصحة و التعليم
– – يضمن تأطيرا سياسيا و ثقافيا و علميا متاحا للجميع في الفضاءات العمومية و وسائل الإعلام التقليدية و الرقمية
المغرب أكبر من هذه الأزمات المفتعلة التي تؤسّسها الحسابات الضيقة. المغرب اليوم بحاجة إلى مصالحة تاريخية بين أجياله، إلى حوار مفتوح بين الأجيال، إلى تأطير شبابه وعدم تركه لعالم افتراضي يقدم له أفكاراً جاهزة محشوة بكل شيء ولا شيء، ويجعله منفصلاً عن هويته وعن ثقافته وعن ثوابته، فيتحول إلى شجرة شامخة كثيرة الأوراق والأغصان لكن جذورها هشة لأنها منفصلة عن تربتها.
فمغربنا أكبر من هذه الأزمات المفتعلة. المغرب اليوم بحاجة إلى مصالحة تاريخية بين أجياله، وإلى التزام حقيقي بقيم الديمقراطية الاشتراكية، وإلى شجاعة من “الديناصورات السياسية والمؤسساتية” لتسليم المشعل، قبل أن يسقط المشعل نفسه وتشتعل شرارته في نسيجنا الاجتماعي.