خيمة الاسترداد في جامع الفناء .. هل سنستعيد معنى الساحة؟


حرر بتاريخ | 07/11/2023 | من طرف كشـ24

بقلم : فاطمة ايت عبد الرحمان

الحلْقه من الخيمه و الخيمه من الحلقة.

ساحة جامع الفناء نقطة عبور لساكنة مراكش و مَحَجُّ زُوَّارِها اللّازِمَةُ زيارتهُ لكل من حلّ بها ؛للتبضع أو للسياحة و عرِّف بها أخيراً أحد خبراء العمران المغاربةِ بأنها كانت أكبر مرسى بري في المدينة ،بل و في إفريقيا. عَمِل الزوار من مسافرين، باعة ، مشترين ، ومارة على المرور بها و الخَوْضِ في حلقاتها (حلْقةِ الحكواتي) و الجلوس للاستراحة في مقاهيها طائرةِ الصيتِ و كانت الحلْقة مَلاذَهُم الأولِ للترويحِ عن أنفسهم او اللقاء .

على مرئي و مسمع قُصَّاد الساحة و العابرين فنائها ، تتراءى لنا الخيمة العجيبة تتوسط الساحة مُرحبةً بالجميع ، الكل مدعو . استقبلت الحكواتي : المحلَّي والأجنبيَّ ،المارَّةَ و حتى التلاميذَ المُتّجهين نحو مدارسهم . الكُلُّ استوقفته الخيمة الطارئة . طالما تساءل الجميع عن مآل الحَكَواتِيِ القصَّاصِ و راوي المَلاحِمِ و السِّيرِ و حاكي النُّكَتِ و الهَزْلِياتِ و عن غيابه . فها هو ذا َيتَمَلَّكُ عقول الحُضورِ … من اسْتَوقفه الصوت و من أثار انتباهه سر توافد الحشود . هذا مسرح الحكواتي و ما يُحدث في النفوس.
إنها خيمة فرضت وجود الحكواتي في ساحة الفناء ,خيمة ألهمت الكل ، فقرر الحكواتيون المْعْلْمين الِكبار أو ما تبقى من تلك القِلَّةِ القليلةِ من الجَمِّ الغفيرِ البائدِ ، بمعيةِ الشبابِ . المغاربةِ و الأجانبِ ، القيامَ بتحدٍّ مُميزٍ والذي اصطلحَ عليه ” حكايه-تون” . هذا تحد لكسر رقم قياسي أطول من الرقم الذي حققه الإسبان في سرد الحكايات( أين اجتمع الإسبان؟) . لقد قام جميع الحكواتيين بالحكي لمدة تجاوزت الخمسين ساعةً.

الحلْقه في بداية القرن.

تجسد التحدي بعد أن عمِل الجميع على إنجاح المباردة و استمد القوة ليس من انشاء دائرة الحلقة فقط بل كانت لمناسبة اللقاءات في الخيمة دور فعّال في تشجيع الحكواتيين و إيقاظ الهمم و ضخ الثقة في النفوس .
في يوم من أيّام شتاءِ مراكش، حيث ضربتِ المدينةُ موعداً لمحبّي الرُّواةِ و القُصَّاصِ ، اجتمع الكُلّ بدون استثناء من أجل : “حكاية-تون” دالك التحدي الذي ابتدأ مباشرة بعد الموكب المشهود الذي قام به الحكواتيون في أرجاء المدينة و الذي سنعود للحديث عنه في ما بعد .
المثير للانتباه ان المشاهدين لم يكّلوا ولا يمّلوا من الحضور و متابعة الحكايات تُسْرد أمامهم ليل نهار ( طول مدة التحدي كلها) .أصبحت الخيمة خلال الخمسين ساعة التي دامها التحدي وجهةً لمن ضّل طريقه و استهدى بها وسط الساحة حتى في ساعات الليل المتأخرة و أمسى هذا التحدي مَحطَّ إعجابٍ و مَناطَ حديثٍ في كل مكان : فنادقَ، دور ضيافةٍ، رياضاتٍ، مقاهيَ و مجامعَ ليلية من قِبَلِ كُل من حَضر من الأجناس و وسائل إعلام دولية ،تابعها عشرات الملايين عبر شبكات التواصل الاجتماعي .

ثنائي الحكواتيين ،البريطاني دجون رو و المغربي زهير الخزناوي.
فلم يسبق لأي مهرجان بمراكش أن حظي باهتمام مئات الملايين من المتابعين عبر العالم و المعجبين بهذا الموسم الفريد في أشهرِ ساحةٍ تراثيةٍ بالقارة الإفريقية.
الخيمة نتيجة للعمل الدؤوب الذي حضّر له مسؤولو مهرجان مراكش للحكي والحكواتيون وفي مقدمتهم رئيسه التنفيذي زهير الخزناوي والذي كان واحداً من الحكواتيين الذين شاركوا في مُجريات هذا التحدي. لقد استهله الجيل المُخضرم كأمثال دجون رو و تابعه الكل من كل أنحاء العالم عبر الأثير و شاركه تفاصيله باقي الحكواتيين بدون تردد و لا توقف كما ختمه الجيل الصاعد أمثال زهير بل وتطوع الصحفي البريطاني ريتشارد هاميلتون بعدما استلهم الأفكار منهم بعد تتبع كل الحكواتيين و قام هو الآخر بإدلاء دلوه و سرد ما يحفظ من حكايات . فكان هذا الأخير من استكمل الخمسين ساعةً بعدما كان الرهان متوقفاً عند 48 ساعة فقط.
هذه هي الخيمة الفريده التي فرضت نفسها في ساحة جامع الفناء عن جدارة و استحقاق مشروع أسهم الجميع في إنجاحه كل بطريقته : فالحكواتي الصاعد مصطفى الحنش و زميله المهدي الحديدي لم يتوانى على الحضور باستمرار للخيمة و عدم مغادرتها حتى أصبحا حُرّاسها و مُؤمِّنيها ليلاً ونهاراً لما يعنيه وجودها لهما .
وجود الخيمة تذكير بالتناقض الصارخ الذي تعيشه الساحة حاليا من جهة و إعلان منظمة ليونيسكو فضاء الساحة تحفة التراث الشفوي الغير المادي للإنسانية من جهة أخرى .

جامع الفناء في بداية القرن العشرين.

فيالها من مفارقة ؟
فاحتلال ثقافة البطن من مُمَّونين و باعةِ العصير و الباعةِ المتجولين استولى على القسط الأكبر من فضاء الساحة بالإضافة إلى قشور الحلقة المتمثلة في القرد و صاحبه. الثعبانِ و مُروضه و بعض الأهازيج المُلفتةِ للانتباِه بحسب ذوق السُّياح العابرين ،غير مبالٍ بإبقاء المجال الذي كان يمتلكه بحسب أَعْرافِ الَعمَلِ في حرمِ الساحة و سُلِب منه حالياً . و غير عابئين و كأنهم لم يطرق سمعهم أبداً أن أصحاب الفضل و الأيادي البيضاء التي أعادت الاعتبار لساحة الفنون ، قصدوا العناية بالحكواتيين و فنانين الساحةِ رأساً ، و إلّا فالموائد و المطاعم و المقاهي … فهي موجودةٌ في كل شوارع و أزقة المدينة .
فالعبرة بالتراث الثقافي و المعنوي للساحة .
لذا ففكرة نصب الخيمة كرمز يؤكد مشروعية وجود الحلقة و الحكواتي في الساحة رغم تجاهل القيمة المعنوية التي تختزلها .كان ضروريا ووجب الحفاظ عليه كمرسم من مراسيم مهرجان الحكي . أثناء أيّام المهرجان او بعده لتبقى كعلامة فاقعة لونها جديرة بالتأمل لتؤكد ضرورة استرداد الساحة ولو تدريجياً من الاستيلاء التجاري ( هيمنة البيع و الشراء و تكديس السلع).


الخيمه تستقبل جمهور موسم الحكايات .
فالخيمة -إذن- عمل جليل و محمود فهو اللبنة الأولى الحقيقية الاسترداد الساحة من عبث المتمولين و مروجي التفاهات لان الساحة ناضل من أجلها ثُلّة من كبار علماء و أدباء و فنانو و مؤرخو المدينة و أعلام الفكر و الفن المغاربة على السواء طيلة نصف قرن و وصلوا إلى مبتغاهم وهو إعلانها تراثاً إنسانياً غير مادّي من قبل منظمة ليونيسكو و تكون الحلقة هي المحور : محور وجود الساحة و ليس العكس . للأطباق و المآكل و المشارب و كأن هناك صراع مصيري بين البطن و الذوق و الجمال و سلطان الحكاية
إلا أن اصدار هذا الاعلان لم يكفي .
ينبغي التذكيرُ أَنّ الورش الملكي التاريخي لتثمين تراث المدينة يطال الساحة بدورها و قد أُعِدت دراسات أعمال لإنجاز إصلاحات ضروريةٍ وأساسيةٍ تَهُمُّ التبليط الأرضي و تجميل الواجهاتِ و إنارة الجَنَباتِ و دالك بعدما بذلت من قبل الإدارة جهود محمودة أولية للحد من الفوضى العمرانية التي شَوَّهت الساحة منذ عقود .و نَأْمَلُ أن تُنْجَزَ هذه الإِصلاحات وتكون في حسن الظن .
و في انتظار بلوغ مُراِد المجتمع المدني المؤهل و إنشاء مؤسسة التراث لمراكش المدينة التي من و وظائفها أَنْ تحفظ على المدينة العتيقة مقوماتها الثقافية و بهجتها الأزلية .

جمهور الحلْقه أثناء موسم الحكايات

ها نحن نحبس أنفاسنا و نترقّبُ أن تظهر جامع الفناء في حُلَّتِها الجديدةِ. تَقَرُّ بها عينُ المراكشيين أوّلاً و تُعيد الصِّلَةَ بينهم و بين ساحتهم و تحتفي بالزّائِرِ ، فيجد ضالّتهُ الثقافية و المعنوية ليقطفها من شجرة الساحةِ و مَعينِها الدّافقةِ.