بعد بيان وزارة الخارجية المغربية المتواري خلف “مصدر مأذون”، حول مقاطعة الاجتماع الجانبي المقام على هامش قمة “البريكس” في جنوب افريقيا، عاد سؤال التردد وعدم الحسم في المواقف ليفرض نفسه علينا، فهل ستقطع الرباط علاقاتها مع بريتوريا كما فعلت مع فنزويلا مثلا، أم ستسحب السفير كما فعلت مع تونس؟ أم ستلتزم المنزلة بين المنزلتين، لتترك مساحات واسعة لأعداء المغرب كي يصطادوا في الماء العكر. والمؤكد أن الضبابية لا ولن تخدم مواقف المغرب الذي راكم عدة نقاط إيجابية في السنوات الأخيرة، بل تدفع أصدقاء المغرب إلى صحراء التيه الدبلوماسي، لأنه لا أحد سيقبل أن يأكل غيرُه الثوم بفمه!
وحتى نتمكن من الردّ المناسب والقوي والفعال على بريتوريا علينا أن نفهم دوافعها ومحفزاتها. وللوصول إلى هذا المبتغى علينا أن نقوم بعملية التفكيك وإعادة البناء، وأن نبتعد عن التجذيف السطحي من خلال دبلوماسية البيانات غير الموقعة، فالدبلوماسية المغربية لها تقاليد عريقة تمتد لقرون، ولا ينبغي العبث بمصداقيتها.
والردود الدبلوماسية الرصينة تنبني على الشجاعة والوضوح وعدم التهرّب من المسؤولية، كما ترتكز على دراسات استشرافية وتحليل استراتيجي، وتستعين بالإسقاطات المستقبلية والنماذج الخوارزمية، وتضع فرضيات ومتغيرات تفضي إلى سناريوهات وخطط عملية في الميدان، يتقاطع فيها ما هو دبلوماسي محض بما هو سياسي حزبي، وما هو استخباراتي بما هو قوة ناعمة وجماعات ضغط وتحالفات دولية ومصالح اقتصادية، الخ.
وبالعودة إلى سلوك الدبلوماسية الجنوب إفريقية، سنجد أن المواقف السياسية للدول يتحكم فيها في الغالب الأعمّ مُحدّدان اثنان: الأول وهو الأكثر عقلانية يتعلق بالمصالح الاقتصادية والاستراتيجية، وهو المحدد الرئيس الذي تتبناه معظم الدول الديمقراطية. وأما الثاني فيقترن بالاصطفاف الايديولوجي الذي قد يجعل بلداً يضحي بمصالحه من أجل خياراته الدوغمائية؛ وقد تراجع بشكل ملحوظ عدد الدول التي تعتمد هذا المحدد منذ انهيار جدار برلين.
وأعتقد أن موقف جنوب إفريقيا تجاه المغرب يندرج ضمن هذا الصنف الأخير لأن المصالح الاقتصادية والأمنية والاستراتيجية لا ترجح كفة مُعاداة المغرب، فالمبادلات التجارية على سبيل المثال بين بريتوريا والرباط تعادل حوالي ستّ مرات حجم المبادلات التجارية مع الجزائر. وعلى المستوى الاستراتيجي هناك مراكز للدراسات الاستراتيجية حتى من داخل جنوب إفريقيا تدعو حكومة بريتوريا إلى تعميق الشراكة والتعاون مع المغرب بناء على مؤشر ديناميكية الاقتصاد المغربي داخل إفريقيا، بالإضافة إلى الجوانب الأمنية وغيرها.
ولكن ما ذكرناه لا يعفي المغرب من المسؤولية عمّا آلت إليه الأمور، فمعلوم أن جنوب إفريقيا لم تعترف بالكيان الانفصالي في تندوف طوال فترة رئاسة الزعيم نيلسون مانديلا. وذلك راجع إلى معارضته الشديدة ورفضه القاطع أن يَطعن المغربَ في الظهر بعد كلّ ما قدمته له المملكة من دعم شعبي ورسمي ضد نظام الميز العنصري. ومانديلا ليس من طينة القيادات الجزائرية أمثال بومدين وبن بلة وغيرهما ممن رضعوا الخيانة والغدر وتربوا على اللؤم، فقاموا بعض اليد المغربية التي ساعدتهم في الشدة واحتضنتهم في المحنة.
لقد كان مانديلا وفياً للمغرب الذي ساعده ووقف إلى جانبه في كفاحه الطويل ضد الأبارتايد، وله شهادات موثقة بالصوت والصورة في إحدى تجمعاته الخطابية في جنوب إفريقيا سنة 1995، وبحضور ممثلي دول العالم، حيث استفاض في الإشادة والعرفان بدور المغرب الذي كان أول بلد في العالم يزوده بالسلاح ويمده بالمال.
ورغم هذه العلاقة المتميزة وهذه الشهادة الموثقة التي لا تقدر بثمن من الزعيم مانديلا، فإن المغرب لم يستثمرها على الأقل لإبقاء جنوب إفريقيا في موقف الحياد من قضيتنا الوطنية المقدسة، وفي تقديري أن ذلك راجع بالأساس إلى تخلي الخارجية المغربية عن ورقة رابحة في معاركها الدبلوماسية وهي القنوات الحزبية التي تربط حزب المؤتمر الوطني الافريقي ببعض الشخصيات السياسية المغربية التي قضى بعضها نحبه ومنهم من لايزال على قيد الحياة.
وفي انتظار أن تُقنع بريتوريا بتغيير خِيارها تجاه المغرب، على دبلوماسيتنا أن تركز جهودها على استئصال الورم السرطاني الخبيث من جذوره. ولا جدال في أن انتحال الكيان الانفصالي صفة عضو في المنظمة الإفريقية هو أصل الداء، وهو ما يُخوّله حضور مؤتمرات تخص الدول حصرياً ولا مكان فيها للتنظيمات. يحدث هذا في الاجتماع الذي تحتضنه جنوب إفريقيا على هامش قمة “البريكس”، والذي دُعي له زعيم الانفصاليين ابن بطوش. كما حدث من قبل في تونس بمناسبة مؤتمر تيكاد-8 في مثل هذا الشهر من السنة الماضية. وهناك سوابق مماثلة جرت مع الاتحاد الأوربي وغيره من التجمعات والدول، وقد تناولنا بعضاً منها في كتابات سابقة.
ولا ننسى أيضاً أنّ وزيرة خارجية جنوب إفريقيا، السيدة ناليدي باندور، تجشّمت قبل حوالي شهر عناء التنقل إلى موسكو، في تبادل للأدوار مع حليفتها الجزائر، في محاولة يائسة لإقناع الكرِمْلين بتوجيه الدعوة لكيان تندوف لحضور القمة الروسية الإفريقية التي انعقدت في شهر يوليوز المنصرم، ولكنها خابت وخاب مسعاها، وعادت “بِخُفّي تَبّون” حتى لا أقول خُفّي حُنيْن.
إنّ النزيف الدبلوماسي لن يتوقف ما لم يتم طرد الكيان الوهمي من الاتحاد الافريقي. وستتكرر هذه المعارك كما حذّرنا من ذلك منذ يوليوز 2016، فمن الغباء أن نكرر نفس الأخطاء وننتظر نتائج مختلفة كما تقول الحكمة المأثورة. لذلك سيبقى من غير المفهوم بعد ستّ سنوات على عودة المغرب إلى بيته الإفريقي، أن تبقى الخارجية مكتوفة الأيدي دون أن تحرك لا المساطر القانونية ولا السياسية لتنفيذ تعليمات العاهل المغربي الذي أكد في رسالته الموجهة للقادة الأفارقة في يوليوز 2016 أن المغرب عاد إلى المنظمة الإفريقية “ليصحح الخطأ التاريخي”.
وليس هناك من خطأ آخر ينبغي تصحيحه غير إقحام كيان لا تتوفر فيه شروط العضوية. فالاتحاد الإفريقي كما يُعرّف نفسه بنفسه هو تجمع للدول الإفريقية المستقلة وذات السيادة، وليس ناديا للتنظيمات والحركات الانفصالية بغض النظر عن الاعتراف بمغربية الصحراء من عدمه. وهذا التعريف يتنافى جملة وتفصيلاً، نصاً وروحا، منطوقا ومفهوماً مع عضوية تنظيم انفصالي وظيفي يوجد فوق تراب بلد آخر هو الجزائر، وفاقد لكل مقومات السيادة.
وختاما لا بدّ أن نشير إلى أنّ الاتحاد الإفريقي سارع هذا الأسبوع إلى تجميد عضوية النيجر، بعد الانقلاب العسكري، إلى حين “استعادة النظام الدستوري”، وهو ما قام به مع دول أخرى عريقة ووازنة مثل مصر سنة 2013، وهذا في حدّ ذاته مدخل آخر لاقتلاع جرثومة لا تملك لا نظاماً دستورياً، ولا حكومة منتخبة ديمقراطياً، ولا تجري انتخابات تعددية حرة ونزيهة، ولا تقبل أي صوت معارض داخلها حتى وإن كان من مؤسسيها مثلما هو الحال مع زعيم “تيار خط الشهيد” المحجوب ولد السالك.
فما الذي يمنع خارجيتنا الموقرة من تحريك كلّ هذه المساطر لطرد كيان دخيل ليس بدولة ولا يملك سيادة ولا يعرف تداولاً على “السلطة” من أساسه؟ هذا هو السؤال الذي سيبقى مطروحاً إلى حين..