جعفر الكنسوسي يكتب.. المدينة العتيقة، ميراث من الماضي وكنز للمستقبل


حرر بتاريخ | 02/08/2024 | من طرف كشـ24

ألقي هذا النص باسم جمعية منية مراكش لإحياء تراث المغرب وصيانته وهو تعبير عن خلاصة ما يدور بين أفراد اللجنة العلمية للجمعية لتحضير الندوة الدولية “حاضر المدن العتيقة ومستقبلها: معرفة التراث المعماري والعمراني وذاكرته في المغرب الكبير والشرق العربي” نذكر منهم الكاتب جعفر الكنسوسي، المهندس المعماري إيلي مويال، الجامعي عبد الغني زريكم، المهندس المدني عبد العزيز بلقزيز والعمرانية حليمة المرابطي وذلك في نطاق موسمية سماع مراكش الدورة الحادية عشرة من 19 إلى 23 أكتوبر 2022.

ونذكر أن جمعية منية مراكش تنتمي إلى ائتلاف ذاكرة المغرب الذي يضم عشر جمعيات من المجتمع المدني المؤهل والتي تعمل من أجل حماية التراث المادي والمعنوي وتثمينه وأسماءها كالتالي : جمعية منية مراكش، جمعية مؤسسة المغرب للتراث فاس، جمعية ذاكرة الرباط سلا، جمعية تطاون أسمير، جمعية طنجة البوغاز، جمعية ذاكرة دكالة، جمعية ذاكرة آسفي وجمعية ذاكرة الدار البيضاء وجمعية ذاكرة تارودانت وجمعية ذاكرة شباب الصويرة.

“أي دور للمجتمع المدني في تنزيل الرؤية الملكية للحفاظ على التراث وتثمينه”، وأي إسهام للجمعيات المؤهلة في اللجان المحلية المكلفة بتنفيذ البرنامج الملكي؟ هذا الورش التاريخي الذي نرى أعماله كل يوم منذ انطلاقته قبل سنين بداخل أسوار المدينة العتيقة، بل بالمدن العتيقة المذكورة. أراده صاحب الجلالة الملك محمد السادس اعتبارا منه لتراث المدينة. فالمدينة العتيقة هي السر وهي الكنز الذي لدينا في جهاتنا المختلفة. فهذا ورش فريد في تاريخنا منذ قرون، فتح البوابة العالية أمامنا، أمام مبادرات الجمعيات التي تدافع عن قضية، تتبنى قضية، ونحن في جمعيتنا منية مراكش لدينا قضية ورؤية تضبط عملنا منذ عقود، باعتبار أن هذه الجمعية نحسبها امتدادا لجمعيات أخرى مهدت الطريق. ولسنا إلا حلقة من بين حلقات متراسلة تصل الماضي بالزمن الآتي. وحاصل الكلام أن هذه الجمعيات والمؤهلة منها على وجه التحديد ذات الكفاءات العاليات لم تبرح مكانها من دور الملاحظ فقط، بالرغم من خبراتها المتعددة وانخراطها بالفكرة والاقتراح العملي وتحليها بالضمير الوطني.

كان الورش الملكي مشروعا نحلم بتحققه، إلا إنه صار اليوم أعمالا ضخمة تُنجز للنهوض بتراث المملكة. فالمنتظر من المجتمع المدني أن يثمن هذه العملية التاريخية، لأنها أشغال ضرورية بل أساسية، فينبغي أن نثمن ونكمل الشق الآخر مع الوعي التام بضخامة المشروع وإكراهاته.

فأقول لا توجد مؤسسة مؤهلة حاليا غير الإدارة لإنجازه. قامت الإدارة بالعمل وبمجهودات كبيرة وتعمل جاهدة لاحترام الآجال. فإنجاز الورش سابقة بالنسبة لمختلف الإدارات ولم تكن لها من ذي قبل تجربة ودربة على إصلاح النسيج الحضري العتيق بهذه الضخامة واتساع الرقع الحضرية التي تطالها تدخلات الإصلاح والترميم. بل وفي نظرنا واجهتها صعوبات أذكر منها: مقاولات في معظمها غير متخصصة وغياب دراسات معمقة وعدم توفر الوقت الكافي للإنجاز. ومع ذلك كان لابد من مباشرة الأشغال. وبالرغم من هذه المعضلات الثلاث، ينبغي على المجتمع المدني المؤهل أن يأخذ مكانه ومكانته ويقترح ما عنده من حلول تحذقها المعارف والخبرات ويتبنى الدينامية التي يتيحها اليوم النموذج الجديد للتنمية وأن يضع أصبعه على النجاحات ويزكيها وكذلك على المعوقات ويؤكد على أن النجاح لا يأتي إلا عبر إشراك المجتمع المدني المؤهل بإحداث مؤسسة المدينة العتيقة الكفيلة بصون هذا التراث قبل فوات الأوان في حالات كثيرة. فعمل المجتمع المدني القوي بخبرائه وبشخصياته وخبراته بمثابة الروح من جسد هائل ماثل أمام أعيننا. فتعقبات هذا النموذج الجديد على ما أنجز نتبناها بدورنا وهي صريحة جدا.

هناك مفارقة ينبغي أن تستوقفنا مليا، حيث نلاحظ أن النخب التكنوقراطية لم تكن تبالي عادة بالمدينة العتيقة لمدة عقود منذ فجر الاستقلال (أنظر نازلة اغلاق ساحة جامع الفناء غداة الاستقلال وتعيين أول عامل على مدينة مراكش -دفاتر تراث مراكش العدد الثالث الجزء الأول مقالتي صحف جامع الفناء)، هذا من جهة. ونقف من جهة أخرى عن أحوال ذات المدينة العتيقة جيدةً ومكانتها السياحية والإعلامية والتجارية. فلنُذكر بأن لا أحدا كان يعتقد قبل عشرين سنة تقريبا أن التنمية بالثقافة نموذج يُعتمد عليه، بل أن لا أحدا كان يتخيل أن المدينة القديمة قد تصير قاطرة اقتصاد مراكش كافة ولا أنها قد تكون الخميرة اللازمة لتنمية السياحة. فالمفارقة إذن هي أن مراكش لم تنتفع لوحدها فحسب بل انتفع المغرب قاطبة من ظهور مقامة ثقافية جامعة قبل أن تصير قطبا اقتصاديا جديدا ومقيلا للسياحة العالمية. جاءت المفاجئة العظمى من أقصى المدينة العتيقة ومن نموذجها الثقافي الذي كان السبب في ظهور كل هذه الأنشطة الفنية والاقتصادية والعقارية أو الثقافية بالمعنى الواسع. فمقومات البلد التاريخية هي التي أضحت سدة الناصر والمنصور بحسب تعبير لسان الدين بن الخطيب لما أقام معيار اختياره بل اختباره للمعاهد والديار. فهل السر يكمن في التاريخ أكثر مما هو في الجغرافيا؟ بل أقول عاد المحور التاريخي القاري من داخل المغرب (محور مراكش، فاس، سوس درعة وهو حامل التاريخ بدلا من محور الشاطئ)

أثرت المدينة العتيقة بقوة تبليغها الحضري في الوافدين الجدد، هؤلاء الذين اشتروا المنازل والديار والدويرات ومعظم الرياضات الفاخرة عام 2000 تحديدا، وصارت فيما بعد دورا للضيافة، فقد اقتضى الأمر عشرين عاما تقريبا قبل أن يُنتبه إليها لتنكب الإدارة على المسألة وتواكبها.
إلا أنه وجبت الإشارة أن هاذين العقدين من الزمن كانا مهلكين للتراث المبني للمدينة وطبعا ما ضاع من المدينة لن يعوض ولا رجعة فيه. لا شك أن إنشاء فنادق جديدة ومطاعم ودور الضيافة وفرت مناصب شغل كثيرة وأنشطة اقتصادية متنوعة حتى الثقافية منها لكن ما الذي حصل في المقابل. إن الثمن كان باهظا وما هدم من مبان عدت من الغابرين بلا رجعة.

كان الأوائل من هؤلاء المراكشيين الجدد (أعني الأجانب الطارئين) تُحركهم محبة البناء العتيق، شغوفين بها نزاعا لأصولهم الأرستوقراطية أو من انضاف إليها، إلا أن الأمر صار بسرعة تجارة مربحة تكتنفها مزايدات عقارية. فتعلل الجيل الثاني من هذه الطائفة بتحوير أماكن ثقافية بل وحمالة لرصيد تقافي كبير بحسب مصالحهم.

وفي الغالب فرضوا تغييرات تستجيب لتجارتهم النافقة الجديدة دون أن يعبؤوا بالقيمة التراثية للمنازل. حصل تغيير في المباني العتيقة كان من اليسير تفاديه في إطار تصميم التهيئة لسنة 2000 الذي أشرف على إنجازه المهندس المعماري إيلي مويال المعروف بانتصاره لمدينة مراكش العتيقة ومعانيها الغريقة و(البني المراكشي) كما يصطلح عليه عند العرفا والموجهين أي شيوخ النظر من أهل مراكش قديما. كان الغرض منه تأطير مختلف نشاط المتعهدين الجدد. والمحصل أن هؤلاء الطارئين على المدينة تدخلوا بحرية كاملة.

يمكننا القول بأن الإتلاف الجزئي للتراث لم يحجز الصحة الجيدة الاجمالية لنموذج المدينة العتيقة. وإن أخدنا بعين الاعتبار التأثير الاقتصادي والثقافي لهذه المقاربة مع العلم أنها مازالت مصدر إبادة للقيمة التراثية، لا شك أننا لاندفع الثمن حاليا لكن مع المطاولة سنؤديه لا محالة لأن هناك إتلاف للمعنى.

وقد نتصور في وقت ما أن مفعولية هذه الخميرة الثقافية التي يتسم بها النسيج الحضري العتيق للمدينة قد يصير أقل قوة لأن هاته التغيرات ربما انقلبت إلى ضد معناها. وهذا من نتاج العولمة، فهذه غالبا ما تكتفي بفقد القيمة وتواري المعنى الذي يترتب عن هيمنة الكم كما يقول الأستاذ روني كينو.

ينبغي أن نميز ما بين المدينة التي هي مركز ثقافي للإنتاج لأنها هي مجال حياة الناس الذين يعيشون فيها وبها تحيى عوائدهم وسير عيشهم اليومي. ومن أجله يقصد الوافدون مركزها الثقافي للارتواء من معينه. وبوسعهم أن يفدوا عليها من أقصى بلدان العالم، يتغذون بمادتها الرمزية، يعترفون بذلك ويستحسنونه.

كما ينبغي التمييز بين هذا الإنتاج وإنتاج إرادي آخر. فهذه الصيغة الثانية مرغوب فيها طبعا، إلا أنه ينبغي أن نفهم أن الثقافة هي قبل كل شيء الإبقاء على هذا الكيان الحضري الذي نسميه المدينة العتيقة، نحفظ عليه حياته ونصونه لكي يبقى بصحة جيدة.

غالبا ما نسمع عن مبادرات ثقافية تصدر عن شخصيات وجمعيات وهيئات ومؤسسات طبيعتها متعددة، غايتها إنقاذ المدينة العتيقة وصون تراثها. الملاحظ أن جميع هذه المبادرات تبقى هامشية إن قارناها بالحقيقة التالية وهي أن المدينة نفسها وجسمها الرمزي كانا السبب في الانتباه إليها، وأنها قد دافعت بالفعل عن نفسها جيدا، وجرًت من ورائها الاقتصاد والسياحة على السواء. والواقع إذن فهذا الكيان الرمزي هو الذي كان له التصريف إلى حد الآن مقارنة بتدخلات الإنسان التي بقيت دون ذلك. فهذا التراث بالرغم من كونه في خطر هو فعال بنفسه. فمن خلال ماديتها فمدينة مراكش هي كيان رمزي يدافع عن نفسه لوحده وبنجاعة. وبتعبير آخر فإن هذا الجسم الرمزي يؤثر في محيطه الإنساني، كما يفعل في الاقتصاد. ولا شك أن مفعولية هذا الكيان ستستمر مستقلة عن مبادرات هذا وذاك إن توفرت له الشروط.

وبوسعنا أن نتساءل ما عسانا أن نقوم به ونجلبه لصالح المدينة العتيقة من أشياء ذات أهمية.
ما الذي يمكننا أن نقوم به ونعزز به شأن المدينة؟ لربما في مقدمة هذه التساؤلات ينبغي على كل واحد أن يستمر في محاولة فهم ما معنى المدينة وما الذي تستمر هي في قوله، يعني أنها كيان حي يتكلم! فينبغي فقط أن نتحلى بالاستعداد الذهني بل الجواني لفهم ما يقوله لنا هذا الجسم الذي يتحدر من أزمنة قديمة ومع ذلك يستمر في الخطاب. ومن أجل ذلك فحري بنا قبل أن نتساءل ماذا يمكن جلبه، ينبغي أن نقول ما الذي يجب فهمه؟

إلا أن ما يعوزنا هو قلة الدراسات والأبحاث الميدانية سواء الجامعية منها وغيرها فلنقلها وبكل صراحة أن التراكم الكمي المعرفي الذي يفلي ويقلب في ثنايا المدينة ضئيل جدا. والعمل على توفير المضامين العلمية هو في مقدمة الأولويات.

ويبقى أنه يوجد مكان في قلب الحاضرة بل في قلب البلاد، يخاطب الناس، أهل مراكش ومن يأتي من زوار العالم على السواء. فهذا المكان يحدث صدى مستمرا يأتي من أزمنة سحيقة ومع ذلك له قيمة كبرى في زمن العولمة حاليا، وأهميته كبيرة لأنه يمثل بوثقة صدى الهوية الوطنية، ويمثل كذلك مقامة حضارية عالية، كل الناس في حاجة إليها. وكما قال كاتب من مراكش الطيب بوعشرين في بداية القرن العشرين “وكل الناس لهم إليها حنين واشتياق”.
ويبدو لي وكأن قول الكاتب حدس أو إلهام تركه لنا قبل مائة عام وراح، فمن فهمه استراح.

هناك بعض الأماكن “موسومة”) (emblématiques، مطبوعة، توجد في العالم، تتكلم، وتحدث وقعا بليغا في ضمائر الناس ومن بينها مدينة مراكش العتيقة، سواء أتدخلنا لنُصرة هذا الكيان أو أحجمنا. وبالطبع إذا قدمنا لها العون الكافي سيذهب الأمر بعيدا أكثر وأعلى، ويَحسن بنا أن نمد لها يد العون والحالة أن معظم الشروط قائمة. ونلاحظ أن هناك جزء في الحياة الثقافية للمدينة نجده غير إرادي ويواصلنا من أقدم عصورها ومصدره أهل البلد. فحري بنا أن نقدم لها العون والعولمة تحيط بنا من كل جهة. ولحسن طالع المدينة أنها تتوفر على شارة بل مراكش هي الشارة، ويبقى على عاتقنا استعمالُها على الوجه الأمثل، لأن جانبا كبيرا من التداعيات الاقتصادية منها والثقافية يترتب عنها.

وشيأ فشيأ سنشهد تداعيات على كل المستويات. فكلما صار العالم أكثر كثافة كلما توجه نحو مزيد من العولمة، لما كان احتياجنا كبير لشارات موسومة ولأمكنة مطبوعة تكتنز هوية قوية جدا، لأن الناس يتجمعون حول هذه الهُويات الأصيلة بالذات أكثر فأكثر. فالمدينة العتيقة هي بالأصالة ثقافية وتنتج إنتاجا غزيرا بالفعل.

ومطمح أنفسنا أن يصبح مستقبل المغرب الحضري أيضا في فَهم المدينة العتيقة وتفهيمها وتقبلها بقَبول حسن والإنصات لذلك الخطاب الأخاذ الذي ما فتئ يصدر عن كَيانها القديم.